ليلة رأس السنة في أمسية ماطرة من شهر ديسمبر وفي أحد الشوارع الفرعية اندفعت سيارة سوداء بسرعة كبيرة وفيها شاب يبدو من ملامحه أنه في العشرينات من العمر ... ولكن لنقف قليلاً ..ما هذا الذي في عينيه ؟ أهي دموع ؟ .....غريب .. نعم غريب أن يبكي شاب مثله بعد إعلانه أن سعادته هي على الأرض وأنه لن يسمح للحظة في حياته أن تمر دون أن يمرح ويلهو ... ولكن هاهو يبكي ...نحن نعرف أن الرب يدفعه لكي يراجع نفسه ويدقق في حياته .. ولكن هو لا يعرف هذا.. بل كل ما يعرفه أنه قد تم طرده من عمله بسبب تقصيره وإهماله وتعرض لسخرية زملائه وتركته صديقته ..... فاعتبر أن العالم والبشر جميعاً أعلنوا الحرب ضده .... فقرر أن ينتقم .. ولكن كيف؟..في البداية .. استعار سيارة صديقه وقادها بسرعة جنونية وهو يفكر .. واستغرق في تفكير عميق وصوت الرعد من حوله .. والمطر ينهمر بغزارة.. لقد حاول إيجاد طريقة لينتقم من الجميع .. ها .. نعم .... لقد وجدها .... إنها خطة شيطانية لا يمكن أن تفشل وتألقت عينيه ببريق الانتقام والحقد .. وللحظة تبدل هذا البريق ببريق آخر أكثر قوة .... وأخذ هذا البريق يزداد.. ويزداد.... حتى غمر وجهه واجبره على تغطية عينيه بذراعه ... حتى حدث شيء ما ..... وآخر ما سمعه كان صوت اصطدام قوي ثم سادت سحابة سوداء أمام عينيه وهدأ كل شيء إلا من صوت قطرات المطر ....مرت ساعات طويلة وهو غائب تماماً عما حوله... وأخيراً فتح عينيه ببطء وكان يسمع أصوات من حوله ......فسأل : أين أنا؟هذا السؤال المعتاد الذي لابد أن يسأله كل مريض عندما يفتح عينيه...**أنت في المستشفى ؟ ... كانت تلك إجابة طبيب وقور المظهر بملابسه البيضاء وابتسامته الهادئة ...* ماذا حدث ....؟** لقد اصطدمت سيارتك بسيارة نقل كبيرة في الطريق الجنوبي ....* هل أنا بخير....؟أدرك فجأة أنه لا يحس بأطرافه وكأنه يسبح في الهواء فنظر إلى يديه كانتا غارقتان في الجبس ... وكذلك الحال بالنسبة لقدميه ... نعم.... لقد أصبح عاجزاً عن الحركة تماماً ..... وقد لا يستطيع أن يسير قبل شهور طويلة ... أدرك الحقيقة المؤلمة وأغمض عينيه .... لقد أعمى الحقد بصيرته وعقله ... فكان هو أول ضحايا انتقامه..... وبكى بمرارة .... ولا يدري كم استمر بكاؤه ولكن فتح عينيه وتأمل حوله فلم يجد أحد ولكنه سمع صوت شخص يتنفس قريب منه ....فسأل : هل من أحد هنا ..؟*** نعم أنا زميل لك في الألم... مريض مثلك وإن كان المرض يختلف...* وما مرضك...؟*** أعاني مشكلة في التنفس وعلي إضافة لأخذ الدواء أن أتمشى كل يوم بانتظام لمساعدة رئتي على العمل بشكل جيد ..ونهض يتمشى في الغرفة ولكن بعد لحظات اختفى صوته فسأله الشاب : أين ذهبت ؟ .... إني لا أراك ..*** أنا هنا في الخلف .... أمام هذه النافذة وأتأمل الطبيعة في الخارج .. وأرى ذلك العصفور الذي اعتاد أن يغرد قرب النافذة كل مساء.قال الشاب والدموع في عينيه : إن العالم لا يستحق حتى النظر فهو الظلام والسواد والشر .... إن هذه الرحلة المسماة ( حياة ) لا تستحق أن نعيشها ولو ليوم واحد ...*** للأسف يا بني أنت لا ترى بشكل جيد وأعتقد أنك تحتاج لطريقة جديدة في الرؤية ، فأرجو أن تغمض عينيك وتستمع إلى كلامي وأنا أحدثك عما أشاهده عبر هذه النافذة واسمح لخيالك أن ينقلك إلى البعيد .....فأغمض عينيه وهو يستمع وسرح خياله في السهول والبراري والغابات ..وفي كل يوم كان يستمع للحديث عن العصافير والأطفال والزهور والفراشات وعن نور الشمس ... كان يشعر بشيء يتحرك بداخله ويقول له ....انظر كيف يسير العالم ..... تأمل كيف يدور دولاب الحياة .... ارجع إلى من يسيّر هذا العالم ...ارجع إليه... ارجع إلى من أحبك حتى قدّم حياته لأجل خلاصك .... انظر له بقلبك ... افتح نفسك له ....ما الذي خسرته في حياتك الأرضية .. ماذا أفادك الحقد والرغبة في الانتقام ؟!!!واستمر الحال كذلك مدة شهر كامل ، كل يوم كان يأتي المريض ليقف أمام النافذة ويحدث عن الشاب عن العالم وعما يراه ....حتى أتى يوم شاهد فيه الشاب زميله يخرج مع الطبيب ... وهو يودعه ويقول له : (انظر بقلبك لكي ترى , فالقلب المؤمن هو الذي يرى الحقيقة وليست العين ....).ورحل ... ومع رحيله فكر الشاب وراجع نفسه كثيراً وأخيراً ..... قرر...... وعندما حان موعد خروجه من المشفى ورغم أنه لا يستطيع الحركة دون مساعدة الآخرين ...كانت له أمنية واحدة أن يشاهد تلك النافذة الذي من خلاله عبرت مفاهيم ومعاني غيرت حياته....فقال للدكتور : أرجوك . أريد أن أرى النافذة التي خلفي ...**أي نافذة ..؟* أي نافذة ؟!!! ... تلك التي .... ها... لا يمكن!!...لقد استطاع أن يستدير بمساعدة الطبيب ليفاجئ أنه لا يوجد نافذة .... نعم لا توجد أي نافذة .... لم يكن هناك سوى جدار أبيض اللون ، كما لا يوجد أي أشجار أو عصافير أو حتى شعاع شمس واحد......فقال للدكتور : ولكن الرجل الذي كان هنا ... كان يقف خلفي وينظر من النافذة وكان.... وكان يحدثني عما يشاهده عبرها كل يوم ...** غير معقول !! فالمريض الذي تتكلم عنه .... كان ..... كان (أعمى ) وهو لا يبصر ولا يستطيع أن يرى أي شيء ...*** {انظر بقلبك لكي ترى , فالقلب المؤمن هو الذي يرى الحقيقة وليست العين}.نعم كانت تلك العبارة آخر ما قاله ذلك المريض المجهول الذي رغم أنه أعمى كان يبصر ويرى أشياءً يعجز كثير من المبصرين عن رؤيتها .... لقد غيرت تلك العبارة والكلمات حياته .... وجعلته يرى ويدرك حقيقة أمور كثيرة لم يعرفها في حياته ....والفضل يعود لنافذة الحقيقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق